فصل: ذكر فتح درب ساك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر فتح سرمينية

لما كان صلاح الدين مشغولًا بهذه القلاع والحصون سير ولده الظاهر غازي صاحب حلب فحصر سرمينية وضيق على أهلها واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم فلما أنزلهم وأخذ منهم المقاطعة هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه‏.‏

وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير فأطلقوا وأعطوا كسوة ونفقة وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة‏.‏

واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية مع كثرتها كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل وهي جميعها من أعمال أنطاكية ولم يبق لها سوى القصير وبغراس ودرب ساك وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه‏.‏

 ذكر فتح برزية

لما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية وكانت قد وصفت له وهي تقابل حصن أفامية وتناصفها في أعمالها وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبيل برزية وغيره وكان أهلها أضر شيء على المسلمين يقطعون الطريق ويبالغون في الأذى فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعًا يقاتلها منه فلم يجد إلا من جهة الغرب فنصب له هناك خيمة صغيرة ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع‏.‏

وهذا القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل لعلوه وصعوبته وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعًا كثيرًا حتى قارب القلعة بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة لكنه لا يصل منه شيء إليها امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق وهي التي بطلت منجنيق المسلمين فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به عزم على الزحف ومكاثرة أهلها بجموعه فقسم عسكره ثلاثة أقسام‏:‏ يزحف قسم فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني فإذا تعبوا وضجروا عادا وزحف القسم الثالث ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة‏.‏

فلما كان الغد وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة تقدم أحد الأقسام وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي صاحب سنجار وزحفوا وخرج الفرنج من حصنهم فقاتلهم على فصليهم ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل فلا قاربوا الفرنج عجوزا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى وتسلط الفرنج عليهم لعلو مكانهم بالنشاب والحجارة فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل فلا يقوم لها شيء‏.‏

فلما تعب هذا القسم انحدروا وصعد القسم الثاني وكانوا جلوسًا ينتظرونهم وهم حلقة صلاح الدين الخاص فقاتلوا قتالًا شديدًا وكان الزمان حرًا شديدًا فاشتد الكرب على الناس وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا ورجعوا‏.‏

فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم وصاح في القسم الثالث وهم جلوس ينتظرون نوبتهم فوثبوا ملبين وساعدوا إخوانهم وزحفوا معهم فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا فقاموا أيضًا معهم فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم فظهر عجزهم عن القتال وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن فدخل المسلمون معهم وكان طائفة قليلة في الخيام شرقي الحصن فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب لأنهم لا يرون فيه مقاتلًا وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين فصعدت تلك الطائفة من العسكر فلم يمنعهم مانع فصعدوا أيضًا الحصن من الجهة الأخرى فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج فملكوا الحصن عنوة وقهرًا ودخل الفرنج القلة التي للحصن وأحاط بها المسلمون وأرادوا نقبها‏.‏

وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر فملكها المسلمون عنوة ونهبوا ما فيها وأسروا وسبوا من فيها وأخذوا صاحبها وأهلها وأمست خالية لا ديار بها وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت‏.‏

ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلًا من المسلمين على هذا الحصن قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة وهو يعدو في الجبل عرضًا فألقيت عليه الحجارة وجاءه حجر كبير لو ناله لبعجه فنزل عليه فناداه الناس يحذرونه فالتفت ينظر ما الخبر فسقط على وجهه من عثرة فاسترجع الناس وجاء الحجر إليه فلا قاربه وهو منبطح على وجهه لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل فضبه المنحدر فارتفع عن الأرض وجاز الرجل ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر وقام يعدو حتى لحق بأصحابه فكان سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان‏.‏

وأما صاحب برزية فإنه أسر هو وامرأته وأولاده ومنهم بنت له معها زوجها فتفرقهم العسكر فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم وجمع شمل بعضهم ببعض فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند صاحب أنطاكية وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه وتعلمه كثيرًا من الأحوال التي تؤثر

 ذكر فتح درب ساك

لما فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد فأتى جسر الحديد وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك فنزل عليها ثامن رجب وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد‏.‏

فلما نزل عليها نصب المجانيق وتابع الرمي بالحجارة فهدمت من سورها شيئًا يسيرًا فلم يبال من فيه بذلك فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها وكشفوا الرجال عن سورها وتقدم النقابون فنقبوا منها برجًا وعلقوه فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه وعادوا يومهم ذلك ثم باكروا الزحف من الغد‏.‏

وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه فصروا وأظهروا الجلد وهم ينظرون وصول جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم فلما علموا عجزه عن نصرتهم وخافوا هجوم المسلمين عليها وأخذهم السيف وقتلهم وأسرهم ونهب أموالهم طلبوا الأمان فأمنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال ولا سلاح ولا أثاث بيت ولا دابة ولا شيء مما بها ثم أخرجهم منه وسيرهم إلى أنطاكية وكان فتحه تاسع عشر رجب‏.‏

 ذكر فتح بغراس

ثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس فحصرها بعد أن اختلف أصحابه في حصرها فمنهم من أشار به ومنهم من نهى عنه وقال‏:‏ هو حصن حصين وقلعة منيعة وهو بالقرب من أنطاكية ولا فرق بين حصره وحصرها ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليها ويتعذر حينئذ الوصول إليها‏.‏

فاستخار الله تعالى وسار إليها وجعل أكثر عسكره يزكًا مقابل أنطاكية يغيرون على أعمالها وكانوا حذرين من الخوف من أهلها إن غفلوا لقربهم منها وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها ونصب المجانيق فلم يؤثر فيها شيئًا لعلوها وارتفاعها فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها وشق على المسلمين قلة الماء عندهم إلا أن صلاح الدين نصب الحياض وأمر بحمل الماء إليها فخفف الأمر عليهم‏.‏

فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة وخرج منه إنسان يطلب الأمان ليحضر فأجيب إلى ذلك فأذن له في الحضور فحضر وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه بما فيه على قاعدة درب ساك فأجابهم إلى ما طلبوا فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية فرفعت على رأس القلعة ونزل من فيها وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح وأمر صلاح الدين بتخريبه فخرب وكان ذلك مضرة عظيمة وأتقنه وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد فتأذى بهم السواد الذي بحلب وهو إلى الآن بأيديهم‏.‏

 ذكر الهدنة بين المسلمين وصاحب أنطاكية

لما فتح صلا الدين بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية وحصرها فخاف البيمند صاحبها من ذلك وأشفق منه فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة وبذل إطلاق كل أسير عنده من المسلمين فاستشار من عنده من أصحاب الأطراف وغيرهم فأشار أكثرهم بإجابته إلى ذلك ليعود الناس ويستريحوا ويجددوا ما يحتاجون إليه فأجاب إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر أولها‏:‏ أول تشرين الأول وآخرها‏:‏ آخر أيار وسير رسوله إلى صاحب أنطاكية يستخلفه ويطلق من عنده من الأسرى‏.‏

وكان صاحب أنطاكية في هذا الوقت أعظم الفرنج شأنًا وأكثرهم ملكًا فإن الفرنج كانوا قد سلموا إليه طرابلس بعد موت القمص وجميع أعمالها مضافًا إلى ما كان له أن القمص لم يخلف ولدًا فلما سلمت إليه طرابلس جعل ولده الأكبر فيها نائبًا عنه‏.‏

وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان فدخلها وسار منها إلى دمشق وفرق العساكر الشرقية كعماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار والخابور وعسكر الموصل وغيرها ثم رحل من حلب إلى دمشق وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكرياء المغربي وكان مقيمًا هناك وكان من عباد الله الصالحين وله كرامات ظاهرة‏.‏

وكان مع صلاح الدين الأمير عز الدين أبو الفليتة قاسم بن المهنا العلوي الحسيني وهو أمير مدينة النبي صلى الله عليه وسلم كان قد حضر عنده وشهد معه مشاهده وفتوحه وكان صلاح الدين قد تبارك برؤيته وتيمن بصحبته وكان يكرمه كثيرًا وينبسط معه ويرجع إلى قوله في أعماله كلها ودخل دمشق أول شهر رمضان فأشير عليه بتفريق العساكر فقال‏:‏ إن العمر قصير والأجل غير مأمون وقد بقي بيد الفرنج هذه الحصون‏:‏ كوكب وصفد والكرك وغيرها ولا بد من الفراغ منها فإنها في وسط بلاد الإسلام ولا يؤمن شر أهلها وإن أغفلناهم ندمنا فيما بعد والله أعلم‏.‏

كان صلاح الدين قد جعل على الكرك عسكرًا يحصره فلازموا الحصار هذه المدة الطويلة حتى فنيت أزواد الفرنج وذخائرهم وأكلوا دوابهم وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال فراسلوا الملك العادل أخا صلاح الدين وان جعله صلاح الدين على قلعة الكرك في جمع من العسكر يحصرها ويكون مطلعًا على هذه الناحية من البلاد لما أبعد هو إلى درب ساك وبغراس فوصلته رسل الفرنج من الكرك يبذلون تسليم القلعة إليه ويطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك وأرسل إلى مقدم العسكر الذي يحصرها في المعنى فتسلم القلعة منهم وأمنهم‏.‏

وتسلم أيضًا ما يقاربه من الحصون كالشوبك وهرمز والوعيرة والسلع وفرغ القلب من تلك الناحية وألقى الإسلام هناك جرانه وأمنت قلوب من في ذلك السقع من البلاد كالقدس وغيره فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين ومن شرهم مشفقين‏.‏

 ذكر فتح قلعة صفد

لما وصل صلاح الدين إلى دمشق وأشير عليه بتفريق العساكر وقال‏:‏ لا بد من الفراغ من صفد وكوكب وغيرهما أقام بدمشق إلى منتصف رمضان وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها ونصب عليها المجانيق وأدام الرمي إليها ليلًا ونهارًا بالحجارة والسهام‏.‏

وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم كما ذكرناه فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم خافوا أن يقيم إلى أن يفنى ما بقي معهم من أقواتهم وكانت قليلة ويأخذهم عنوة ويهلكهم أو أنهم يضعفون عن مقاومته قبل فناء ما عندهم من القوت فيأخذهم فأرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم وتسلمها منهم فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور وكفى الله المؤمنين شرهم فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية‏.‏

 ذكر فتح كوكب

لما كان صلاح الدين يحاصر صفد اجتمع من بصور من الفرنج وقالوا‏:‏ إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب ولو أنها معلقة بالكوكب وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سرًا من رجال وسلاح وغير ذلك فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم فساروا الليل مستخفين وأقاموا النهار مكمنين‏.‏

فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلًا من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيدًا فلقي رجلًا من تلك النجدة فاستغربه بتلك الأرض فضربه ليعلمه بحاله وما الذي أقدمه إلى هناك فأقر بالحال ودله على أصحابه فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي وهو مقدم ذلك العسكر فأعلمه الخبر والفرنجي معه فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج فكبسهم فأخذهم وتتبعهم في الشعاب والكهوف فلم يفلت منهم أحد فكان معهم مقدمان من فرسان الإسبتار فحملا إلى صلاح الدين وهو على صفد فأحضرهما ليقتلهما وكانت عادته قتل الداوية والإسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما‏:‏ ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح‏.‏

وكان رحمه الله كثير العفو يفعل الاعتذار والاستعطاف فيه فيعفو ويصفح فلما سمع كلامهما لم يقتلهما وأمر بهما فسجنا‏.‏

ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا فلم يسمعوا قولهن وأصروا على الامتناع فجد في قتالهم ونصب عليهم المجانيق وتابع رمي الأحجار إليهم وزحف مرة بعد مرة وكانت الأمطار كثيرة لا تنقطع ليلًا ولا نهارًا فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه وطال مقامهم عليها‏.‏

وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في ويم واحد ووصلوا إلى باشورة القلعة ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور فنقبوا الباشورة فسقطت وتقدموا إلى السور الأعلى فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم وطلبوا الأمان فأمنهم وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة وسيرهم إلى صور فوصلوا إليها‏.‏

واجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد فاشتدت شوكتهم وحميت جمرتهم وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون والأمداد كل قليل تأتيهم وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره حتى عض بنانه ندمًا وأسفًا حيث لم ينفعه ذلك‏.‏

واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت لا يفصل بينه غير مدينة صور وجميع أعمال أنطاكية سوى القصير ولما ملك صلاح الدين صفد سار إلى البيت المقدس فعيد فيه عيد الأضحى ثم سار منه إلى عكا فأقام بها حتى انسلخت السنة‏.‏

 ذكر ظهور طائفة من الشيعة بمصر

في هذه السنة ثار بالقاهرة جماعة من الشيعة عدتهم اثنا عشر رجلًا ليلًا ونادوا بشعار العلويين‏:‏ يال علي يال علي وسلكوا الدروب ينادون ظنًا منهم أن رعية البلد يلبون ويملكون البلد فلم يلتفت أحد منهم إليهم ولا أعارهم سمعه‏.‏

فلما رأوا ذلك تفرقوا خائفين فأخذوا وكتب بذلك إلى صلاح الدين فأهمه أمرهم وأزعجه فدخل عله القاضي الفاضل فأخبره الخبر فقال القاضي الفاضل‏:‏ ينبغي أن تفرح بذلك ولا تحزن ولا تهتم حيث علمت من بواطن رعيتك المحبة لك والنصح وترك الميل إلى عدوك ولو وضعت جماعة يفعلون مثل هذه الحالة لتعلم بواطن أصحابك ورعيتك وخسرت الأموال الجليلة عليهم لكان قليلًا فسري عنه‏.‏

وكان هذا القاضي صاحب دولة صلاح الدين وأكبر من بها وستأتي مناقبه عند وفاته ما تراه‏.‏

  ذكر انهزام عسكر الخليفة من السلطان طغرل

في هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكرًا كثيرًا وجعل المقدم عليهم وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس وسيرهم إلى مساعدة قزل ليكف السلطان طغرل عن البلاد فسار العسكر ثالث صفر إلى أن قارب همذان فلم يصل قزل إليهم وأقبل طفرل إليهم في عساكره فالتقوا ثامن ربيع الأول بداي مرج عند همذان واقتتلوا فلم يثبت عسكر بغداد بل انهزموا وتفرقوا وثبت الوزير قائمًا ومعه مصحف وسيف فأتاه من عسكره طغرل من أسره وأخذ ما معه من خزانة وسلاح ودواب وغير ذلك وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين‏.‏

وكنت حينئذ بالشام في عسكر صلاح الدين يريد الغزاة فأتاه الخبر مع النجابين بميسر العسكر البغدادي فقال‏:‏ كأنكم وقد وصل الخبر بانهزامهم‏.‏

فقال له بعض الحاضرين‏:‏ وكيف ذلك فقال‏:‏ لا شك أن أصحابي وأهيل أعرف بالحرب من الوزير وأطوع في العسكر منه ومع هذا فما أرسل أحدًا منهم في سرية للحرب إلا وأخاف عليه وهذا الوزير غير عارف بالحرب وقريب العهد بالولاية ولا يراه الأمراء أهلًا أن يطاع وفي مقابلة سلطان شجاع قد باشر الحرب بنفسه ومن معه يطيعه وكان الأمر كذلك ووصل الخبر إليه بانهزامهم فقال لأصحابه‏:‏ كنت أخبرتكم بكذا وكذا وقد وصل الخبر بذلك‏.‏

ولما عادت عساكر بغداد منهزمة قال بعض الشعراء وهو أحمد بن الواثق بالله‏:‏ أتركونا من جائحات الجريمة طلعة طلعة تكون وخيمة بركات الوزير قد شملتنا فلهذا أمورنا مستقيمة خرجت جندنا تريد خراسا ن جميعًا بأبهات عظيمة ووزير وطاق طنب ونفش وخيول معدة للهزيمة هم رأوا غرة العدو وقد أق بل ولوا وانحل عقد العزيمة وأتونا ولا بخفي حنين بوجوه سود قباح دميمة لو رأى صاحب الزمان ولوعا ين أفعالهم وقبح الجريمة قابل الكل بالنكال وناهي ك بها سبة عليهم مقيمة كان ينبغي أن تتقدم هذه الحادثة وإنما أخرتها لتتبع الحوادث المتقدمة بعضها بعضًا لتعلق كل واحدة منها بالأخرى‏.‏

 ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي شيخنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن سويدة التكريتي كان عالمًا بالحديث وله تصانيف حسنة‏.‏

وفيها توفيت سلجوقة خاتون بنت قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان زوجة الخليفة وكانت قبله زوجة نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن فلما توفي عنها تزوجها الخليفة ووجد الخليفة عليها وجدًا عظيمًا ظهر للناس كلهم وبنى على قبرها تربة بالجانب وفيها توفي علاء الدين تنامش وحمل تابوته إلى مشهد الحسين عليه السلام‏.‏

وفيها توفي خالص خادم الخليفة و كان أكبر أمير ببغداد ومات أبو الفرج بن النقور العدل ببغداد وسمع الحديث الكثير وهو بيت الحديث رحمه الله‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة

  ذكر فتح شقيف أرنون

في هذه السنة في ربيع الأول سار صلاح الدين إلى شقيف أرنون وهو من أمنع الحصون ليحصره فنزل بمرج عيون فنزل صاحب الشقيف وهو أرناط صاحب صيدا وكان أرناط هذا من أعظم الناس دهاء ومكرًا فدخل إليه واجتمع به وأظهر له الطاعة والمودة وقال له‏:‏ أنا محب لك ومعترف بإحسانك وأخاف أن يعرف المركيس ما بيني وبينك فينال أولادي وأهلي منه أذى فإنهم عنده فأشتهي أن تمهلني حتى أتوصل في تخليصهم من عنده وحينئذ أحضر أنا وهم عندك ونسلم الحصن إليك ونكون في خدمتك ونقنع بما تعطينا من إقطاع فظن صلاح الدين صدقه فأجابه إلى ما سأل فاستقر الأمر بينهما أن يسلم الشقيف في جمادى الآخرة‏.‏

وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد وهو قلق مفكر لقرب انقضاء مدة الهدنة بينه وبين البيمند صاحب أنطاكية فأمر تقي الدين ابن أخيه أن يسير في من معه من عساكره ومن يأتي من بلاد المشرق ويكون مقابل أنطاكية لئلا يغير صاحبها على بلاد الإسلام عند انقضاء الهدنة‏.‏

وكان أيضًا منزعج الخاطر كثير الهم لما بلغه من اجتماع الفرنج بمدينة صور وما يتصل بهم من الأمداد في البحر وأن ملك الفرنج الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه بعد فتح القدس قد اصطلح هو والمركيس بعد اختلاف كان بينهما وأنهم قد اجتمعوا في خلق لا يحصون فإنهم قد خرجوا من مدينة صور إلى ظاهرها فكان هذا وأشباهه مما يزعجه ويخاف من ترك الشقيف وراء ظهره والتقدم إلى صور وفيها الجموع المتوافرة فتنقطع الميرة عنه إلا أنه مع هذه الأشياء مقيم على العهد مع أرناط صاحب الشقيف‏.‏

وكان أرناط في مدة الهدنة يشتري الأقوات من سوق العسكر والسلاح وغير ذلك مما يحصن به شقيفه وكان صلاح الدين يحسن الظن وإذا قيل له عنه مما هو فيه من المكر وإن قصده المطاولة إلى أن يظهر الفرنج من صور وحينئذ يبدي فضيحته ويظهر مخالفته لا يقبل فيه فلما قارب انقضاء الهدنة تقدم صلاح الدين من معسكره إلى القرب من شقيف أرنون وأحضر عنده أرناط وقد بقي من الأجل ثلاثة أيام فقال له في معنى تسليم الشقيف فاعتذر بأولاده وأهله

وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه وطلب التأخير مدة أخرى فحينئذ علم السلطان مكره وخداعه فأخذه وحبسه وأمره بتسليم الشقيف فطلب قسيسًا ذكره لحمله رسالة إلى من بالشقيف ليسلموه فأحضروه عنده فساره بما لم يعلموا فمضى ذلك القسيس إلى الشقيف فأظهر أهله العصيان فسير صلاح الدين أرناط إلى دمشق وسجنه وتقدم إلى الشقيف فحصره وضيق عليه وجعل عليه من يحفظه ويمنع عنه الذخيرة والرجال‏.‏

 ذكر وقعة اليزك مع الفرنج

لما كان صلاح الدين بمرج عيون وعلى الشقيف جاءته كتب من أصحابه الذين جعلهم يزكًا في مقابل الفرنج على صور يخبرونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور الجسر الذي لصور وعزموا على حصار صيدا فسار صلاح الدين جريدة في شجعان أصحابه سوى من جعله على الشقيف فوصل إليهم وقد فات الأمر‏.‏

وذلك أن الفرنج قد فارقوا صور وساروا عنها لمقصدهم فلقيهم اليزك على مضيق هناك وقاتلوهم ومنعوهم وجرى لهم معهم حرب شديدة يشيب لها الوليد وأسروا من الفرنج جماعة وقتلوا جماعة منهم سبعة رجال من فرسانهم المشهورين وجرحوا جماعة وقتل من المسلمين أيضًا جماعة منهم مملوك لصلاح الدين كان من أشجع الناس فحمل وحده على صف الفرنج فاختلط بهم وضربهم بسيفه يمينًا وشمالًا فتكاثروا عليه فقتلوه رحمه الله ثم إن الفرنج عجوزا عن الوصول إلى صيدا فعادوا إلى مكانهم‏.‏